إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا logo من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
shape
محاضرات بعنوان: عناية السلف بالحديث الشريف
17126 مشاهدة print word pdf
line-top
أبو هريرة وإكثاره من رواية الحديث

ثم حفظوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم أقواله وأفعاله، وكان من أحرصهم أبو هريرة رضي الله عنه؛ مع أنه ما أسلم إلا سنة سبع. صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع وسنة ثمان وسنة تسع وسنة عشر، وأول سنة إحدى عشرة أي: نحو أربع سنين، ولكنه كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فحفظ عنه كثيرا. كان قد رزقه الله تعالى قوة الحفظ وقوة الذاكرة، فكان ينكر عليه بعض الصحابة ويقولون: أكثر علينا أبو هريرة يعني: روى أحاديث كثيرة، ولكنه يعتذر ويقول: إنكم تقولون: أكثر علينا أبو هريرة وتقولون: لماذا لا يروي هذه الأحاديث المهاجرون والأنصار؟ وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإني كنت امرأً مسكينا ألازم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني.
اعتذر بأنه كان ملازما النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: فأحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا؛ فهكذا اعتذر، وأخبر بأن المهاجرين يشغلهم الصفق بالأسواق يعني: طلب الربح والتجارة في الأموال فينشغلون بذلك عن أكثر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه هكذا اعتذر، وذكر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم حرصه لما سأله مرة: أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: لقد علمت ألا يسألني أحد قبلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه يعني: من وحد الله توحيدا خالصا؛ فعلم حرصه على الحديث وحرصه على السنة، فهذا دليل جده واجتهاده.
وكذلك ذكر مرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يبسط ثوبه، فيجعل فيه شيئا من تراب حتى يتم حديثي، ثم يقبضه فإنه لا ينسى شيئا مما سمعه يقول: فبسطت نمرة علي، ثم ضممتها إلي فما نسيت شيئا من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على حرصه، وعلى أنه يحرص على أن يحفظ ما مر به من الأحاديث.
ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاث. يقول: لا أدعهن ما بقيت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصلي ركعتي الضحى. لماذا أوصاه أن يوتر قبل أن ينام؟ قيل: لأنه كان يبيت أول الليل. يدرس الحديث؛ يتذكر، ويذاكر الأحاديث النبوية التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزال كذلك إلى أن يمضي ثلث الليل أو نصفه، وهو يردد هذه الأحاديث فأمره بأن يصلي تهجده وورده قبل أن ينام؛ مخافة أن يغلبه النوم في آخر الليل فيطلع الفجر قبل أن يوتر فأرشده إلى هذا الأمر؛ الذي هو أن يوتر وأن يتهجد قبل أن ينام، وكان أيضا في ذلك الوقت شابا أعزب لم يكن قد تزوج، فكان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، ويصبر على الجوع لم يكن له كسب ولم يكن له مال.
ذكر مرة أنه اشتد به الجوع حتى كان يسقط إذا مشى من شدة الجوع. يقول: فمر علي النبي صلى الله عليه وسلم فعرف الذي في وجهي فقال: أبا هريرة قم معي. يقول: فجئت إلى أحد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم عندنا لبن أهدي إلينا فقال: يا أبا هريرة ادع لي أهل الصفة -كان أهل الصفة من المهاجرين؛ ليس لهم مأوى إنما يسكنون في صفة أي: حجرة من المسجد؛ إذا جاءته صدقة بعث بها إليهم، وإن جاءته هدية أرسل إليهم فأصابوا منها وأكل منها- فيقول: فلما أرسلني حزنت؛ لأن هذا لبن قليل، وإذا جاءوا أمرني أنا الذي أسقيهم، وقد لا يبقى منه شيء، ولا بد من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول فدعوتهم فأخذوا مجالسهم فقال: يا أبا هريرة اسقهم. يقول: فأخذت قدحا فكنت أعطي كل واحد فيشرب حتى يروَى، ثم الثاني ثم الثالث حتى رووا كلهم. يمكن أنهم عشرة أو عشرون. يقول: فلما شربوا كلهم، قال: أبا هريرة بقيت أنا وأنت فقلت: نعم يا رسول الله. قال: اجلس فاشرب. يقول: فشربت، ثم قال: اشرب يقول: فشربت، ثم قال: اشرب حتى رويت فقلت: والله لا أجد له مسلكا؛ فقال: أعطني فأعطيته البقية فشرب الفضلة .
ففي هذا أيضا أنه كان يصبر على الجوع إلى أن يأتيه من المهاجرين والأنصار من يستتبعه، ويطعمه مما عنده. كان يمدح جعفر بن أبي طالب مع أنه ما صحبه إلا سنة أو نحوها. يذكر أنه كلما لقيه استتبعه فيعطيه مما تيسر من تمرات أو نحوها، حتى أنه يقول: إنه يؤتى بالعكة فيها شيء من السمن فيشقها فنلحس ما فيها من الرب الذي يكون بعد السمن، وكانوا يجعلون فيها شيئا من الدبس حتى لا يعلق فيها سمن ونحوه هكذا، وبكل حال كان من حفاظ الصحابة رضي الله عنهم.
ذكروا أنه كان يحفظ الخمسة آلاف حديث التي رويت عنه كما في مسند بقيّ بن مخلد أو أكثر، ومن الصحابة من يحفظ ألفين وزيادة أو قريبا من ألفين؛ الذين تأخر موتهم رووا أحاديث كثيرة.
أبو هريرة مات سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين. روى أحاديث كثيرة؛ لأنه تأخر موته حتى اهتم السلف واهتم التابعون بالأحاديث؛ فكانوا يتوافدون يروون عنه الأحاديث فكثرت أحاديثه، وكذلك أيضا ابن عمر عُمِّرَ حتى قارب عمره التسعين. مات سنة أربع وسبعين. كان أيضا ممن روى أحاديث زادت على الألفين، وكذلك أنس بن مالك عُمِّرَ حتى جاوز عمره مائة سنة. روى أحاديث كثيرة زادت على الألفين، وكذلك عُمِّرَت عائشة ماتت سنة ثمان وخمسين. روت أحاديث كثيرة قاربت الألفين، وهكذا كثير من الصحابة.

line-bottom